السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
احمد ربي مصلياً على محمدٍ خير نبي أرسلا ، و بعد:
فهذه بعض كلمات جمعتها للشهر الكريم ، راجياً ممن وجد الخطأ أن يصححه ، و من وجد بغيته أن يبلغه ، و لكم من الشكر أجزله .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم . . . أما بعد : قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) كان الخطاب الإلهي موجهاً للمؤمنين ؛ لأن صيام رمضان من مقتضيات الإيمان ، ولذلك ترجم البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان ( بابٌ صوم رمضان احتساباً من الإيمان ) . و روى فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : " من صلّى رمضان إيماناً و احتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه ". و هذا فضل عظيم من الله يمتنُّ به على من شاء من عباده.
وفي قوله تعالى : (( كما كتب على الذين من قبلكم )) : تسليةً لنا ، فالإنسان إذا علم أن هذا الأمر قد سبقه غيره بالانقياد له و العمل تخِفُّ وطأة التكليف عليه مع شدّة الحر و الظمأ و طول النهار كأيامنا هذه ، و أجره على الله سبحانه.
وفي قوله تعالى : (( لعلكم تتقون )) : فالصيام جُنّة يقي من المعاصي و من النار ؛ للحديث المتقدم عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله : " غفر له ما تقدم من ذنبه ". و في ختم هذه الآية بيّن الله حكمته من إيجاب الصيام أن ذلك من أجل التقوى.
? و في الصيام سرٌّ عجيب قلَّ من يتفطن له ، ألا وهو استطاعتنا على ترك الشهوات و المعاصي ... كيف ذلك؟
عندما نأتمر بأمر الله بترك الطعام و الشراب و قول الزور و الجهل و الآثام خلال ساعات النهار و التي تمتد إلى ثلاث عشرة ساعة ، فهذا دليل واضح على قدرتنا على الاستمرار في اصلاح النفس و تقويمها. و هذا الشهر الكريم من خير ما يعين من اعتاد أسلوب حياة ينزعج منه ، و يطمح في التغيير. و علماء النفس و التنمية الذاتية يذكرون أن الاستمرار على نمط حياة لمدة واحدٍ و عشرين يوماً يكفل للنفس الاستمرار على هذا النمط لمدة أطول ، لكن بشرط عدم الإخلال ، فلا يكون رمضان في النهار فقط دون الليل.
" قال ابن الحنفية رحمه الله : ليصم سمعك و بصرك و لسانك و بدنك ، فلا تجعل يوم فطرك مثل يوم صومك ، و اتق أذى الخادم.
***
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "قال الله عز و جل كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه " متفق عليه و اللفظ للبخاري. و في رواية لمسلم : " يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها " وفي رواية لمسلم : " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " وله أيضاً : " قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك "
فوائد الأحاديث :
? لماذا ذكر الصوم بذاته مع كون جميع الطاعات لله تعالى ؟
قال النووي رحمه الله تعالى : قيل أن سبب إضافته لله تعالى أنه لم يُعبد غير الله تعالى بالصيام ، فلم يُعظّم الكفار معبوداً لهم على مرّ الأعصار بالصوم ، و إن عظموا معبوداتهم بالصلاة و السجود و الصدقة. و لأن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه ، بخلاف العبادات الظاهرة ، وليس للصائم و نفسه فيه حظ ، لذلك انفرد الله سبحانه و تعالى بعلم مقدار ثواب الصائم ، و تضعيف حسناته.
? " فإنه لي " : أنا أعلم به ، و محيط بنيات العباد في هذه العبادة و مدى إخلاصهم ، فإن للعبد أن يعلن أمام الملأ أنه صائم ، ثم يستتر فيفطر ، و لا يعلم بذلك إلا الله سبحانه.
? " الصوم جنة " : حصن من الوقوع في الآثام و المعاصي ، و هو بهذا المعنى أدعى للتوبة و الانقياد لله تعالى.
قال النووي رحمه الله : جنة : أي ستر مانع من الرفث و الآثام ، و مانع من النار.
? معنى الرفث : الفحش في القول ، و ما يستقبح من الكلام من ذكر الجماع و غيره ، و جعل الله عز و جل الرفث كناية عن الجماع كم في قوله : (( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )).
? " إني صائم " : أي ممسك عن الدنايا ، خائف من بطلان صومي ، و هذا فيه ردع للنفس و تأديب لها على معالي الأمور.
? " خلوف فم الصائم " : تغير رائحة الفم بسبب الجوع ، و قال القاضي : يجزيه ربه في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك ، و قيل : رائحته عند الملائكة. ? ما سبب فرحة الصائم عند فطره ؟
1. استبشاراً برضا الله و إزالة جوعه.
2. استبشاره يوم القيامة بعظيم الأجر و واسع النعيم.
وقال النووي : أما استبشاره عند لقاء ربه ، فيما يراه من جزائه ، و تذكر نعمة الله عليه أن وفقه لمرضاته. ***
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إن في الجنة باباً يُقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحدٌ غيرُهُم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحدٌ "
رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي
وزاد : " ومن دخله لم يظمأ أبداً "
وابن خزيمة في صحيحه إلا أنه قال : " فإذا دخل أحدُهٌم أُغلقَ ، منْ دخلَ شرِبَ ، ومنْ شَرِبَ لمْ يظمأ أبداً " فوائد الحديث :
الريان : من الري ضد العطش ، أنهارٌ عذبةٌ جارية ، و هذا جزاء العطش في حياته ابتغاء مرضات الله تعالى ، فيدعى الصائم من هذا الباب تكريماً له و مزيد عناية. و قوله : " إن في الجنة " : لم يقل إن للجنة ، ليشعر أن لهذا الباب من النعم و الراحة ما في الجنة ، فيكون أبلغ في التشويق لهذا النعيم. قال شيخنا صالح بن عبدالله العصيمي حفظه الله : ( أبواب الجنة عُلّقت بالأعمال ، فأهل الصلاة يدعون من باب الصلاة ، و أهل الجهاد يدعون من باب الجهاد ، و أهل الصدقة يدعون من باب الصدقة. أما أهل الصيام فيدعون من باب الريان ، و ليس من باب الصيام ، و ذلك لأن معنى الصيام في اللغة : الإمساك ، و في الإمساك كرهٌ ، فسُمّي الباب الذي يدخله الصائم بضد الإمساك ، و ضد الإمساك هو ( الريان ) ، و هو الذي يُروي قاصديه ، و هذا جزاء الصائم. ***
حال السلف الصالح في رمضان
إن مما يشحذ الهمم لمعالي الأمور و التنافس في الخيرات قراءة سير السلف الصالح في العبادات. و من أهم ما يعين في هذا الموسم ، معرفة أحوالهم في رمضان.
فهذا الشهر المبارك ، موسم للقربات و الطاعات ، من قيام و صيام و تلاوة للقرآن ، و نحمد الله أن تهيأ لنا في هذا الزمان من الوسائل التي تعين على الطاعة الشيء الكثير ، فنرى المساجد مضاءة ، و مهيأة بالتكييف ، و تفضل المحسنون بالمياه ، مما لا يلزم المسلم معه إلى الخروج من المسجد.
و انظر - يا رعاك الله - إلى حال السلف في مساجدهم في رمضان :
ذكر ابن أبي الدنيا عن إسحاق الهمداني قال : خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أول ليلة من شهر رمضان و القناديل تزهر ، و كتاب الله يُتلا في المساجد ، فقال : نوّر الله لك يا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قبرك ، كما نوّرت مساجد الله بالقرآن.
فهذه نعمةٌ من النعم يجب علينا شكرها ، فقد قال تعالى : ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ))
قال الطبري رحمه الله تعالى : لئن شكرتم ربَّكم ، بطاعتكم إياه فيما أمركم و نهاكم.
فلنغتنم هذه النعم بعمارة المساجد في هذا الشهر الفضيل ، و لتكن انطلاقة لتصحيح مسار حياتنا إلى ما يوافق مراد الله عز وجل ، و خير ما تستغل به الأوقات في رمضان ، قراءة القرآن.
وكان السلف رحمهم الله تعالى يحيون أيامهم و لياليهم ، و إنك لتعجب عندما ترى الواحد منهم لا ينام إلا ما بين المغرب و العشاء ، كما هو حال علي الأزدي رحمه الله :
قال مجاهد : كان علي الأزدي رحمه الله يختم القرآن في رمضان كلَّ ليلة ، و ينام بين المغرب و العشاء.
و عن الأسود رحمه الله أنه كان يختم القرآن في رمضان في ليلتين ، و ينام فيما بين المغرب و العشاء. ***
رمضان و الزهد في الدنيا
رمضان مدرسة في الزهد ، يقطع آمال النفس في الملذات و رغبات النفس ، ليرقى بها في طريق سيره إلى الله عز و جل ، فالبدار البدار إلى الاستفادة من هذه المدرسة قبل أن ينصرم الشهر سريعاً دون أن نحصّل شيئاً.
عن عروة عن عائشة قالت " : كان يأتي على آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر ليلة ما نوقد فيها بنار ، وفي أخرى عنه عنها قالت : كان ليمر بنا الشهر ونصف الشهر ما يوقد في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار لمصباح أو لغيره ".
وروى مسلم : " ما شبع آل محمد يومين من خبز البر إلا وأحدهما تمر "
وروى ابن سعد : " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر " .
وروى الدمياطي عن الحسن : " أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال : والله ما أمسى في آل محمد صاع من طعام وإنها لتسعة أبيات والله ما قالها استقلالا لرزق الله ولكن أراد أن يتأسى به أمته ، قلت وليعرفوا أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر كما قرر أهل العلم ؛ لقوله تعالى : (( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى )) "
وروى مسلم عن عائشة كان يعجبه من الدنيا الطيب والنساء والطعام فأصاب الأولين دون الثالث .
فهذه حياته صلى الله عليه وسلم ، و هو خير من وطئ الثرى - بأبي و أمي هو- لم يشبع في هذه الدنيا ، و لم يلتفت لها. فحريٌّ بنا كمقتدين به صلى الله عليه و سلم أن نتأسى بفعله في هذا الشهر الكريم.
قال الشاعر :
دع الدنيا لمــــفتتن **** و إن أبدت محاسنـــها
و خــذ منها بأيسرها **** و إن بسطت خزائنهـا
فــــإن الدار دارُ بِلى **** حيال المــــوت آمنها
و قــد قلبت لك الأيـ **** ــام ظاهرها و باطنها
و حسبك من صفات الوا **** صفين بأن تعاينها
أليس جديدها يبلـــى **** ويفني الموت ساكنها
***
الصائم و ذكر الله عز وجل
مع الصيام و الجوع و الظمأ ، تسمو روح المسلم عن الدنايا و تتعلق بمعالي الأمور و تتطلع إلى زيادة الإيمان ، و الذكر خير معين على ذلك.
قال كعب رضي الله عنه : من أكثر ذكر الله برئ من النفاق .
ما أعظمها من منّة و نعمة يعجز الإنسان عن شكرها ، البراءة من النفاق. و يقول ابن رجب رحمه الله معلقاً على هذا الأثر : ( يشهد لهذا المعنى أن الله وصف المنافقين بأنهم :
(( لا يذكرون الله إلا قليلاً )) ، فمن أكثر من ذكر الله ، فقد باينهم - أي : فارقهم - في أوصافهم ، و لهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله ) ، قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ))
وكانت أحوال السلف عجيبة في هذا الباب ، فهذا معاذ بن جبل يحرص أشد الحرص على التعاهد و التذاكر في الله عز وجل :
فعن الأسود بن هلال قال : كنا نمشي مع معاذ بن جبل رضي الله عنه ، فقال : اجلسوا بنا نؤمن ساعة.
و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لأن أُكبّر الله مائة مرة أحب إليّ من أن أتصدق بمائة دينار.
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن أهل السماء ليرَون بيوت أهل الذكر تُضيءُ لهم كما تُضيءُ الكواكبُ لأهل الأرض.
و كان جعفر بن محمد يحدث عن أبيه رحمهما الله ، فقال : فقد أبي بغلةً له فقال : لئن ردّها الله عز وجل لأحمدنّه محامد يرضاها ، فما لبث أن أُتي بها بسرجها و لجامها ، فركبها ، فلما استوى عليها و ضمّ عليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء و قال : الحمد لله . لم يزد عليها ، فقيل له في ذلك ، فقال : و هل تركت أو أبقيت شيئاً ؟ جعلت الحمد كله لله عز وجل.
و قال سعيد بن جبير رحمه الله : الذكر طاعة الله ، فمن أطاع الله ، فقد ذكره ، و من لم يطعه فليس بذاكر ، و إن أكثر التسبيح و تلاوة القرآن.
و عن بكر بن عبد الله رحمه الله : أنه لحق حمّالاً عليه حِمْلُه ، وهو يقول : الحمد لله و أستغفر الله. قال : فانتظرته حتى وضع ما على ظهره ، و قلت له : أما تُحسن غير ذي ؟ قال : بلى ، أحسنُ خيراً كثيراً ؛ أقرأ كتاب الله ، غير أن العبد بين نعمة و ذنب ، فأحمد الله على نعمائه السابغة ، و أستغفره لذنوبي ، فقلت : الحمال أفقه من بكر.
و الأحوال كثيرة في هذا الباب ، فلا تحرم نفسك أيها الغالي - وفقني الله و إياك لمرضاته - من هذه الأجور العظيمة ، و التي لا تكلّفك شيئاً ، فالذكر لا يلزم منه مجهودٌ بدني ، و لا طهارة ، و لا مكان معيّن ، بل إنه الغنيمة الباردة لمن وفقه الله لها.
***
__________________
قال شيخ الإسلام رحمه الله: